منذ ثلاثين سنة، كان يزور مصر المُفكر والوزير العراقى الأسبق د. خير الدين حسيب. وتصادف أحد أيام الزيارة مع وفاة أحد أفراد أسرة محيى الدين. وحينما اعتذرت عن رؤيته فى مساء ذلك اليوم بسبب نية الذهاب لعزاء كل من الأستاذ خالد ود. عمرو محيى الدين، وكان هو بدوره يعرفهما، حيث كان من أبرز الناصريين العرب، فسأل إن كان يمكن أن يُصاحبنى لأداء واجب العزاء لهما بدوره. وكانت المرة الأولى التى يفعل فيها ذلك خارج العراق. وكان العزاء فى مسسجد عُمر مكرم بميدان التحرير.
ولاحظ الصديق العراقى الزائر أن كل الأطياف السياسية المصرية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين جاءت لتأدية واجب العزاء. شمل ذلك باشوات العهد الملكى، إلى أقطاب الحقبة الناصرية، إلى كبار مسؤولى الحقبة الساداتية، إلى عُمال مصانع حلوان وفلاحى كفر شكر وأبناء النوبة. وفى طريق العودة إلى فندقه، قال خير الدين حسيب إن المشهد الذى رآه فى تلك الليلة بمسجد عُمر مكرم، لم يره أبداً لا فى العراق ولا فى أى بلد عربى آخر. قلت له إن تضامن المصريين فى لحظات المحن والأحزان هو تقليد مصرى عميق الجذور، منذ بداية تاريخنا الفرعونى المُسجل.
تذكرت ذلك الحدث، وأنا وشقيقى، المهندس أحمد رزق، نُعزى المستشار هشام البسطويسى وأسرته فى وفاة عميد الأسرة الأستاذ/ عثمان البسطويسى رحمه الله. فإلى جانب رموز ورجال المؤسسة القضائية، من الوزير إلى رؤساء نادى القضاة ووكلاء النيابة الشباب، رأينا وصافحنا مُعظم مُمثلى الأحزاب والقوى السياسية المصرية.
وقد ضاعف من عُمق ووقار المشهد، لا فقط ما تحمله الجماعة السياسية المصرية للمستشار هشام البسطويسى من محبة وإعجاب لمواقفه المشهودة، هو وقلة من زملائه، فى مُراقبة الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٥، بتجرد وإنصاف وعدالة، ومُقاومته الباسلة للضغوط والإغراءات، للتستر ـ أو الصمت ـ على ما شاب تلك الانتخابات من مُخالفات جسيمة. وأكثر من ذلك أنه لم يتردد عن الحديث للإعلام عما رآه من تلك المُخالفات، ولم يعبأ الرجل باتهامات بعض المسؤولين عن هذه التجاوزات من كبار القوم، بأنه مع زملائه أصبحوا من مُحبى الشُهرة والأضواء. وهو الاتهام الذى اعتبره القضاة الأحرار بمثابة «ابتزاز» لإسكاتهم، والإفلات بجرائمهم دون عقاب معنوى أمام الرأى العام، والذى هو أضعف الإيمان.
من آيات الإعجاب بهشام البسطويسى وزملائه من القضاة الأحرار، أن عديداً من منظمات المجتمع المدنى فى مصر والوطن العربى والعالم أشادت بهم، ودعتهم مراراً وتكراراً لمنتدياتها ومؤتمراتها. ولبى بعضهم الدعوة، فى الحدود التى يسمح فيها السياق بذلك، وحينما لا يكون هناك أى شك فى أن ذلك يمكن أن يمس وقار واحترام واستقلالية هؤلاء القضاة.
نعم، منذ قاد المرحوم الدكتور عوض المُر المحكمة الدستورية فى أحكامها الشهيرة حول كل ما يتعلق بشرعية الانتخابات، وانتفاء هذه الشرعية ما لم يكن هناك إشراف قضائى كامل على كل مراحلها وخطواتها، برزت المؤسسة القضائية كآخر سُلطة حقيقية مُستقلة. وتمسك الشعب بأهدافها. وحينما تجرأت الحكومة على مُحاولة مُحاكمة بعض هؤلاء القضاة لأنهم مارسوا دورهم المُستقل علانية، تجمهر ما يقرب من مليون مصرى حول دار القضاء العالى، حيث كانت ستجرى تلك المُحاكمة. وهو ما أخاف النظام، فأوعز لأنصاره فى داخل المؤسسة القضائية بسرعة إقفال ذلك الملف، بمجرد «لفت نظر»، لهشام البسطويسى وأحد زملائه.
ولكن النظام الحاكم، كالعادة، دأب على تخريب المؤسسة القضائية وتطويعها، كما فعل مع بقية مؤسسات المجتمع والدولة. وكان «نادى القضاة» هو قمة الاستهداف. فحشد لذلك قضاة الأرياف والصعيد، بدعوى أن ناديى القاهرة والإسكندرية قد استأثرا بالشُهرة والنفوذ! وشتت أعضاء مجلس إدارة الناديين، بالنقل والانتداب والإحالة إلى التقاعد. وتقوضت أركان آخر القلاع، على الأقل إلى حين.
وكنت قد كتبت عدة مرات عن هذا الموضوع فى حينه، منذ خمس سنوات، وفى هذه الصحيفة. وكان العزاء فى رحيل والد المستشار هشام البسطويسى مناسبة للالتقاء بالعديد من المُحاربين القدماء لنادى القضاة، وعلى رأسهم المستشار محمود مكى. ولم ينس مُعظمهم ما كنت قد كتبته تنويهاً وإعجاباً بمواقفهم. وحينما سألت عما إذا كان هناك أمل أن يستعيد القضاة دورهم فى الشأن السياسى العام. كانت الإجابة، ابتسامة صامتة، فى مُعظم الأحيان. ولكن قال بعضهم لماذا لا تستعين منظمات المجتمع المدنى المعنية بمُراقبة الانتخابات بالقضاة المتقاعدين من ذوى الهمة والسُمعة الطيبة والاستقلالية فى ذلك الأمر.
وها أنا أنقل هذا الاقتراح الوجيه للقائمين الحاليين، على مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، ورائد مُراقبة الانتخابات منذ عام ١٩٩٥، وللمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ومركز استقلال القضاء والمُحاماة، ولاتحاد المُحامين الليبراليين، والمنظمات الشقيقة الأخرى، لكى يأخذوا بهذا الاقتراح.
إن القضاة فى كل أنحاء العالم هم القطاع الأكثر ثقة واحتراماً من شعوبهم. وهم ثروة قومية نفيسة فى أى مجتمع. فإذا كان ذلك صحيحاً عموماً، فهو الأصح فى مصر، منذ وضع شيخ القضاة، عبدالعزيز فهمى باشا، الأساس الراسخ لهذا الاستقلال، عام ١٩٢٣، بإنشاء المحكمة العُليا للنقض والإبرام.
لقد عاد المستشار هشام البسطويسى من الكويت، التى انتدب لمحكمة النقض فيها منذ ثلاث سنوات. ولما سألته عما إذا كان يفتقد المشهد النضالى الوقور الذى كان رُكناً فيه، أجاب ودمعة تترقرق فى عينيه، أن الكويت تتيح قضاءً حُراً، يجد القضاة المصريون فيه، ما أصبح عزيزاً عليهم فى مصر، وأن الهجرة المؤقتة لهذا القضاء، بدأت مع شيخ آخر من شيوخ القضاء الدستورى، وهو د. عبدالرازق السنهورى، فى منتصف خمسينات القرن العشرين. فتحية وعزاء لهشام البسطويسى ولكل قضاة مصر.
وعلى الله قصد السبيل